لقد اهتم القدماء من الرومان في وضع القصص الخيالية وعنوا بها عناية لا مزيد عليها فأطلقوا عنان الفكر في وضعها وتفننوا في أساليبها حسب القابلية والاستعداد وحسبما حركتهم المواهب ودفعتهم الهواجس إلى التفنن في تلك المواضيع الأخلاقية والمباحث الاجتماعية على شكل حكاية ترمي إلى تهذيب الأخلاق وتقويم أود الأمة من إعوجاج الهمجية والجهل وبذلوا الجهد لغاية شريفة هي تهذيب الأخلاق والتعليم.
على إننا لم نقصد هنا غير اصلاح الروايات ومزجها بالحكم ولعلوم التي توصل القارئ إلى أوج الكمال لترفعه إلى مستوى السعادة الحقيقية التي وضعت الروايات ودونت من أجلها.
على أننا لم نقصد في مقالنا هذا غير اصلاح فن الروايات وادماجها بالحكم والعلوم المفيدة لتهذيب نفس الناظر فيها وتوصله إلى أوج الكمال ولتجعله عضواً عاملاً في هذه الحياة!
إن القصص الخيالية والروايات قد انتشرت في هذا العصر انتشاراً هائلاً وانكب الناس على مطالعتها وراجت رواجاً شائعاً بين أكثر الطبقات على إن أسلوب هذه القصص قوي التأثير على الشعور والمدارك قوي التأثير على الأخلاق والعواطف لأنه إما أن يصور الفضيلة على أجمل تصوير وأحسنها فيميل إليها القارئ ويرغب فيها فتتجسم الفضيلة في نفسه وتجعل فيه ملكة تبرزها نفسه بشكله الأصلي فتنمو حسب القابلية والاستعداد
وأما أن يصور الرذيلة بأقبح مظاهرها فيمقتها القارئ كل المقت لأن الرذيلة مما تمقتها النفوس وتمجها الطباع وتنفر منها القلوب فمن هاتين الحالتين يدرك القارئ ذلك المغزى الذي وضعت الروايات لأجله ولهذا المقصد السامي وضعت لا لقتل الوقت وتضييع العمر الثمين والحياة العزيزة في الأشياء التافهة.
وقد يرجع عهد وضع هذه الأساطير الخيالية على ما يقال إلى عصور مدنية الرومان التي كانت مشرقة بالحضارة التي اقتبست منها الأمم جل مفاخرها وهكذا كل أمة عظمت مدنيتها وحضارتها تميل بطبعها إلى المفاكهات والترف لأنها قد ذللت صعوبات الحياة فتطمح إلى الدعة وحب الحرية المطلقة كي تستقل متمتعة في استقلالها كما يستقل ويتمتع بها غيرها من الأمم.
نعم، يطالع القارئ الرواية فتتجسم بشكلها في مخيلته وترتسم في مفكرته بصورة ملموسة وهيئة محسوسة تمثلهما في مداركه.
وإذا أمعنت النظر وراقبت باعتناء ودقة إلى مَن يطالع رواية جنائية ذات فصول مملوئة بالجرائم المنكرة فإنك ترى التأثير والتهيج يبدوان من سحنته والاشمئزاز والتقزز باديان من انفعالاته النفسية وتراه يقبض يده تارة ويبسطها أخرى من التأثير حتى يظهر أثر الانقباض في وجهه فيمتعض لونه ويختلج حاجبه وربما اشتد ذلك الانفعال ببعضهم فقراته من صفحة وجهه من امقتاع لونه لأن الصحيفة التي يطالعها قد أثرت على حواسه وعواطفه أثرت في خلاقه وشعوره ولا برهان أدل من تلك التأثرات على زعمنا من هذه الظواهر وهكذا القصص الخيالية وما ترمي إليه من الفوائد العامة فلهذا ينبغي الاعتناء باصلاحها وتنقيحها من الأوهام التي تبدو في النفوس حب الذلة والمسكنة والخضوع (ينظر المرء في قصة خيالية فما يكاد يأتي على بعض صفحاتها حتى يجد قلبه كأنما شدت نياطه إلى براعة الكاتب فهو يضطرب باضطرابها وينزو بنزواتها، وسرعان ما ترى نفسه بين يدي القاص يعبث بها فهو إن شاء أضحكها وإن شاء أبكاها، يفسح لها مجال الأمل حتى لتكاد تتناول النجم وهي قاعدة، ويردها إلى القناعة حتى لتزهد في الهواء تتنسمه ويغريها بالحمية حتى ليتطاير الشرار بين أحناء ضلوعها.
ذلك مبلغ القصص من التأثير فهل ترى عظة أبلغ، أو حكمة أرشد، أو حجة أقوى، أو ذكرى أنفع أو سلطاناً أقهر، أو حاكماً أنفذ حكماً من قصة خيالية.
إذا كان للقاص ما قد رأيت من التأثير فهل يكبر عليه أن يجتث رذيلة لها في قرارة النفس مراح ومغدى؟ أم هل يفوت طوقه أن يغري نفساً بفضيلة ويحملها على خلق كريم، كلا إنه ليبغض إليك الغدر ويريك من مصارع ذويه ما يرضيك كل الرضاء بالوفاء ويحبب إليك كل الحب مذهب المسألة والإخلاص للناس.
وإذا أراد أن يشرب قلبك الرأفة والرحمة انتقل بك من مجلسك على وثير فراشك أيام الشتاء وبين جداول حديقتك إبان الصيف وأطلعك على حال قوم وقعوا في أسر الفقر، فهم يلبسون إهداماً ما يغيرونها إن جاء الشتاء فعدتهم له رعشة ما تزايلهم، وإن اشتد القيض صليت منه أجسادهم ناراً حامية، قوتهم ما يشتهون من حثالات الموائد وما يتعرقون من عظام يرميها أصحاب المطاعم بنجوة تقرأ كل هذا فتنقطع نفسك حسرات عليهم ويشتد حنقك على الدهر الذي أساء إليهم ثم تأخذ على نفسك أن تطعم جائعهم وتكسو عاريهم وربما قمت من فورك تبحث عن فقير لتحسن إليه.
ولست ترى مثل القصص كتاباً يجمع الحكمة والفكاهة في نظام، ويصوغ لك الحقيقة في قالب الخيال فتكون بذلك قريبة المتناول سهلة المأخذ ينسى القارئ عندها ما يعتاده من الضجر في مزاولة الحقائق العلمية وما يحس به في محاولة فهمها، وربما انتهى من القصة فكان قد انتهى من الإحاطة بأخلاق أمة من الأمم أو الوقوف على حادثة تاريخية.
تمتاز القصص الخيالية بدقة الوصف فترى القاص يصور لك البؤس في صورة تهفو من مخافتها القلوب وإذا حدثك عن قوم يتنعمون خيل إليك أنك تسمع رنات أعوادهم وأصوات ضحكهم وإنك لا تعدو إذ خطوت خطوة أن تكون معهم.
هذه هي شاكلة القصص في التمثيل والوصف وهي طريقة مع فضلها في التأثير وامتلاك الألباب تكسب القارئ دقة الملاحظة وإجادة الوصف لما يحاول وصفه.
يقرأ المحزون تلك القصص حتى يجد من أمثلة الشقاء الذي ينتاب الناس وصنوف الآلام التي تصبها عليهم الأيام ما يهون به على قلبه الواله وكبده الحرى وبحق يقرؤها المظلوم حتى يجد من حتوف الظالمين ما يطعمه في الظفر بظالمه ويقوي في نفسه عزيمة الصبر على ما يجد من غضاضة الظلم.
كذلك يقرؤها كل مَن أراد أن يخرج بنفسه عن ألم الحقائق وضوضاء العالم إلى سكون الخيال ومسرة النفس